العراق يعبر من النقود الورقية إلى المستقبل الرقمي

يعيش العراق مرحلة تحول مالي تتجه تدريجياً نحو الاقتصاد الرقمي، حيث تتراجع هيمنة التعامل النقدي لصالح أنظمة الدفع الإلكتروني.
إعلان البنك المركزي العراقي عن وصول عدد بطاقات الموظفين الموطنة إلى 5.6 ملايين بطاقة لم يعد مجرد رقم مالي، بل إشارة واضحة إلى أن السوق العراقية باتت مهيأة لاستقبال استثمارات واسعة في مجال التكنولوجيا المالية.
سوق ناشئة بخصائص فريدة
العراق يتميز بتركيبة سكانية شابة، إذ إن أكثر من 60% من مواطنيه دون سن الثلاثين، هذه الفئة بطبيعتها أكثر تقبلاً للحلول الرقمية وأكثر تفاعلاً مع التطبيقات الحديثة.
ورغم ذلك، فإن نسبة الاعتماد على الدفع الإلكتروني لا تزال محدودة مقارنة بدول الجوار، ما يجعل السوق العراقية ساحة مفتوحة لشركات التكنولوجيا المالية المحلية والدولية.
الريادة المحلية ونقاط الانطلاق
شركة كي كارد مثلت الانطلاقة الأولى في هذا المجال، حيث أدخلت ثقافة البطاقات الموطنة وساهمت في بناء الثقة بخدمات الدفع، توسعها لاحقاً إلى خدمات التقسيط، السلف، وأجهزة نقاط البيع (POS) فتح الباب أمام مستثمرين آخرين لإدراك أن السوق العراقية قادرة على استيعاب أكثر من لاعب في هذا القطاع.
وجود شركات محلية أثبت أن البنية التحتية قابلة للنمو، لكنه كشف أيضاً عن الحاجة إلى ضخ استثمارات إضافية لتعزيز الكفاءة، وضمان الاستقرار، وتوسيع نطاق الخدمات لتشمل شرائح جديدة.
البنية التحتية.. تحدٍ وفرصة
نقاط الضعف في البنية التحتية – مثل ضعف الإنترنت أو انقطاع الكهرباء – تبدو في ظاهرها عائقاً، لكنها في نظر المستثمرين تمثل فرصة بناء، الاستثمار في تحسين الشبكات، تأمين مراكز بيانات، وتطوير أنظمة حماية سيبرانية يمكن أن يشكل بوابة لخلق شراكات طويلة الأمد بين القطاع المالي وشركات التكنولوجيا.
القطاع الخاص كمحرّك رئيس
الحكومة العراقية، أعلنت عن خطط لتعزيز الدفع الإلكتروني في القطاع الخاص، وهو ما يعني أن المحال التجارية، الجامعات، المستشفيات، وحتى الأسواق الشعبية ستكون جزءاً من هذه المنظومة خلال السنوات المقبلة، هذا التوجه يفتح مجالاً ضخماً للاستثمار في أجهزة الدفع، الخدمات المصرفية المصغرة، والتطبيقات المالية المرتبطة بالاستهلاك اليومي.
مقارنة إقليمية
في مصر، على سبيل المثال، تجاوز عدد بطاقات الدفع الإلكتروني 30 مليون بطاقة، بينما في السعودية بات الدفع عبر الأجهزة الذكية يمثل نسبة كبيرة من المعاملات اليومية، العراق، برغم تأخره النسبي، يمتلك قاعدة جماهيرية ضخمة لم تُستثمر بعد.
الفارق هنا أن السوق العراقية لا تزال في بداياتها، ما يعني أن الفرصة أكبر أمام المستثمرين للدخول مبكراً والاستفادة من نمو سريع متوقع خلال العقد المقبل.
التطبيقات المالية.. الاستثمار في التجربة
التوجه نحو التطبيقات الرقمية مثل “سوبر كي” يوضح أن العراق ليس بعيداً عن موجة المحافظ الإلكترونية التي اجتاحت العالم، مثل هذه التطبيقات لا تقتصر على دفع الرواتب والفواتير، بل تتجه لخلق منظومة مالية متكاملة تضم أسواقاً، خدمات تقسيط، وكوبونات حكومية.
الاستثمار في هذه التطبيقات يعني الدخول في قطاع متنامٍ قادر على إنتاج بيانات ضخمة (Big Data) يمكن استخدامها في تطوير منتجات مالية جديدة، مثل القروض المصغرة، التأمينات الرقمية، وخدمات الاستثمار المبسط.
المكاسب المتوقعة
الاستثمار في الدفع الإلكتروني بالعراق يحقق مجموعة من المكاسب:
تعزيز الشمول المالي: إدخال شرائح واسعة من المجتمع إلى النظام المصرفي الرسمي.
زيادة الشفافية: تقليص الاقتصاد غير الرسمي ومحاربة التهرب الضريبي.
تحفيز التجارة الإلكترونية: تمكين المستهلك من الشراء عبر الإنترنت محلياً وعالمياً.
جذب رؤوس الأموال الأجنبية: توفير بيئة آمنة وواضحة لشركات التكنولوجيا المالية الإقليمية والدولية.
التحديات التي يجب تجاوزها
بطبيعة الحال، لا يخلو المشهد من تحديات، أبرزها:
ضعف الوعي المالي لدى شريحة واسعة من المستهلكين.
غياب تشريعات متكاملة لحماية البيانات وضمان المنافسة العادلة.
الحاجة إلى تعزيز الأمن السيبراني في ظل تزايد الهجمات الإلكترونية عالمياً.
هذه التحديات، إذا ما عولجت بجدية، يمكن أن تتحول إلى نقاط قوة، لأن وجودها اليوم يعكس حجم السوق غير المستغل حتى الآن.
مستقبل واعد
تجربة العراق في الدفع الإلكتروني لا تزال في بداياتها، لكنها تحمل ملامح قصة نجاح قادمة، الأرقام المتزايدة في عدد البطاقات، توسع الشركات المحلية، ودعم البنك المركزي والحكومة، جميعها عناصر تشير إلى أن السوق العراقية تقف على أعتاب نمو استثنائي.
بالنسبة للمستثمرين، فإن العراق لا يمثل مجرد سوق ناشئة، بل بيئة خصبة لتجربة حلول مالية جديدة قد لا تجد مساحة مماثلة في أسواق أخرى وصلت إلى مرحلة التشبع.
الدفع الإلكتروني في العراق لم يعد مجرد مشروع خدماتي لتوطين الرواتب، بل تحول إلى فرصة استثمارية استراتيجية قادرة على إعادة تشكيل الاقتصاد المحلي، بين شريحة شبابية متعطشة للتكنولوجيا، وحكومة تسعى لتقليل الاعتماد على الكاش، وسوق لم تصل بعد إلى مرحلة النضج، يظل السؤال المطروح: من سيكون المستثمر الذي يقرأ المستقبل مبكراً ويضع بصمته في اقتصاد العراق الرقمي؟.