حديث في التغذية المدرسيَّة

كتب عبد الزهرة محمد الهنداوي.. لم تكن وجبتنا اليومية التي عرفت حينها باسم “التغذية المدرسية” مجرد طعام، بل لحظة فرح ورضا، (صمونة حارة، حليب محلى، تفاحة صفراء أو برتقالة، مع اللبلبي)، كانت كافية لتشبعنا تماما، لدرجة اننا صرنا نتبطر على غداء امهاتنا الفقير اصلا! بل بلغ بنا الحماس حد التمني أن تدرج الجمعة ضمن أيام الدوام الرسمي!
ما زلت أستحضر ذلك المشهد الطفولي الضاج بالرغبة والتلذذ من المرحلة الابتدائية، وتحديدًا في الدرس الثالث، حيث كانت رائحة “اللبلبي” تعبق في أروقة الصف، فتسرق انتباهنا من صوت المعلم إلى وعد وجبةٍ كنا ننتظرها بشغف.
لم تكن وجبتنا اليومية التي عُرفت حينها باسم “التغذية المدرسية” مجرد طعام، بل لحظة فرح ورضا، (صمونة حارة، حليب محلّى، تفاحة صفراء أو برتقالة، مع اللبلبي)، كانت كافية لتُشبعنا تمامًا، لدرجة اننا صرنا نتبطّر على غداء امهاتنا الفقير اصلا! بل بلغ بنا الحماس حدّ التمني أن تُدرج الجمعة ضمن أيام الدوام الرسمي!.
غير أن الزمن دار دورته، ومرت بالعراق سنوات عجاف غاب فيها” اللبلبي” واندثرت التغذية المدرسية، لا سيما في تسعينيات القرن الماضي، حيث هبط ثلاثة ارباع العراقيين إلى ما دون خط الفقر، فكانت النتيجة انخفاضًا حادًا في نسب الالتحاق بالدراسة، وارتفاعًا في نسب التسرب من المدارس الابتدائية.
اليوم، ورغم تحسن مستوى دخل الأسرة وارتفاع نسبة الالتحاق الصافي بالتعليم الابتدائي إلى أكثر من 90 بالمئة، إلا أن العراق لا يزال يواجه محرومية واضحة في بُعد التعليم، وهو أحد أهم أبعاد الفقر، هذه المحرومية رُصدت على مستوى المحافظات، ما يُتيح إمكانية معالجتها من خلال تدخلات مدروسة، يأتي في مقدمتها إحياء برنامج التغذية المدرسية، شريطة أن يُوجَّه نحو الأسر الأشد فقرًا، وأن يُراعى في تصميمه القيمة الغذائية الصحية.
إن التغذية المدرسية، لكي تؤدي دورها التنموي، يجب ألا تتحول إلى مصدر للبدانة أو السُمنة، فهذه بدورها أحد أشكال سوء التغذية، لذا، لا بد أن تكون الوجبة متوازنة، محببة للطفل، ومعدة وفق المواصفات الصحية العالمية المعتمدة.
أما على مستوى التنفيذ والإدارة، فإن نجاح البرنامج يتطلب دراسة علمية شاملة توازن بين التخصيصات المالية والعائد المستقبلي، مع التأكيد أن هذا البرنامج هو استثمار طويل الأمد في التعليم، وتقع مسؤولية إدارته على عاتق وزارة التربية بوصفها الجهة القطاعية، مع شراكة فاعلة من وزارات التخطيط، والصحة، والعمل والشؤون الاجتماعية، وإشراك القطاع الخاص في التمويل أو التنفيذ.
ولضمان الكفاءة والرقابة، يجب تشكيل لجان متابعة صارمة، تراقب نوعية المواد الغذائية ومواعيد توزيعها بدقة، بحيث يعرف التلميذ وقت الوجبة ويتهيأ نفسيًا لتلقيها، ويمكن هنا الاستفادة من الأجهزة اللوحية التي وفرتها وزارة التخطيط لوزارة التربية، في بناء نظام إلكتروني دقيق للمتابعة اليومية.
إن برنامجًا بهذه الأهمية لا يمكن أن ينجح دون ملاكات مدرَّبة ذات كفاءة عالية، قادرة على إدارة العملية الغذائية من التوريد إلى التوزيع، وفق أعلى معايير المهنية والرقابة، ذلك لان التغذية المدرسية، ليست مجرد وجبة، بل هي فرصة لبناء جيل متعلّم، سليم، ومُنتج.