أخر الأخبار

العراق في عصر الذكاء الاصطناعي

كتب د. اسامة ابو شعير.. يشهد العراق لحظة مفصلية في تاريخه التنموي، إذ يتقدّم العالم بسرعة نحو اقتصاد رقمي قائم على البيانات والذكاء الاصطناعي، فيما تتعامل الدول مع البيانات كما تعاملت سابقًا مع النفط والثروات الطبيعية.

وفي هذا السياق، يقف العراق بين واقع رقمي آخذ في الاتساع، وسياسات حكومية وتعليمية واعدة، وبين تحديات بنيوية لا تزال تعيق ولادة رؤية وطنية مكتملة للذكاء الاصطناعي.

ومع ذلك، فإن اللبنات الأولى لبناء هذه الرؤية باتت موجودة بالفعل

بما يجعل السؤال اليوم ليس عن إمكانية دخول العراق هذا العصر، بل عن كيفية تحويل المقومات المتوافرة إلى استراتيجية دولة.

تشير بيانات Digital 2025 Iraq Report إلى أنّ عدد مستخدمي الإنترنت بلغ مطلع عام 2025 نحو 38 مليون مستخدم، أي ما يعادل 81.7 بالمئة من السكان، فيما تجاوز عدد اتصالات الهاتف الجوال 48 مليون اتصال.

هذه القاعدة الرقمية الواسعة تعكس مجتمعًا شابًا متصلًا ومستعدًا للتحول الرقمي، وهو عامل لا تمتلكه العديد من الدول التي أطلقت استراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي.

ومع ذلك، فإن هذا الزخم في الاستخدام لم يتحول بعد إلى اقتصاد رقمي منتج، لأن البنية التحتية والحوكمة السيبرانية لم تصل إلى المستوى الذي يسمح بتحويل الاستهلاك الرقمي إلى قدرة وطنية.

بحسب تقرير Electricity Sector in Iraq لا تزال القدرة الإنتاجية للكهرباء — المقدرة بنحو 13 جيغاواط — أقل من الحاجة الفعلية، ما يجعل تشغيل مراكز بيانات ضخمة أو بناء سحابة حكومية أمرًا صعبًا دون حلول للطاقة المستقرة.

أما تقارير شفق الإخبارية حول الإنترنت، فتكشف استمرار ضعف الخدمة، وتفاوت مستوياتها، واعتماد العراق على مسارات اتصال تمر عبر دول الجوار، وهو ما يهدد مبدأ السيادة الرقمية ويجعل البيانات الوطنية عرضة لمخاطر تقنية وسياسية.

شهد العراق تطورًا مهمًا في القطاع التعليمي، أبرزها استحداث كلية الذكاء الاصطناعي في جامعة بغداد عام 2025 بقرار رسمي من وزارة التعليم العالي.

وتمثل هذه الكلية نقلة نوعية لأنها تؤسس لمسار أكاديمي متخصص في النظم الذكية، البيانات الضخمة، والتطبيقات الطبية والهندسية.

كما أطلقت الوزارة خطة لتأسيس عدة كليات مماثلة في الجامعات الحكومية والأهلية، إلى جانب إدخال مساقات في علوم البيانات والتعلم الآلي.

هذه الخطوات تعكس إدراكًا رسميًا بأن الذكاء الاصطناعي لم يعد موضوعًا تقنيًا، بل بوابة لإعادة بناء الاقتصاد وتحديث الدولة.

ورغم أهمية هذا التطور في التعليم العالي، فإن التحول الحقيقي لا يبدأ من الجامعة، بل من المدرسة.

فالمهارات التي يحتاجها سوق العمل المستقبلي — مثل التفكير الحسابي، والبرمجة المبسطة، وحل المشكلات، والتفكير التصميمي — تُبنى في سنوات التعليم المبكرة.

ومع ذلك، فإن واقع الكهرباء والبنية التحتية يجعل التعميم غير ممكن في الوقت الحالي. ولهذا يمكن للعراق البدء بعدد من المدارس الحكومية والأهلية التي تمتلك بنية أفضل نسبيًا — ولا سيما في المدن الكبرى — لتكون نواة أولى لمشروع التعليم الرقمي، مع تدريب معلميها واعتماد مناهج تجريبية. هذا النهج التدريجي يتيح بناء نموذج وطني يمكن توسيعه عامًا بعد عام دون انتظار تهيئة جميع المدارس دفعة واحدة.تعمل وزارة الاتصالات على مشروع التحول الرقمي للخدمات والهوية الرقمية ورقمنة الوثائق. كما بدأت وزارات مثل النفط باستخدام التحليلات الذكية لتحسين الكفاءة التشغيلية.

وينشط المركز الوطني للاستشعار عن بعد في تطبيقات الذكاء الاصطناعي في البيئة والجغرافيا.

غير أن هذه المبادرات، رغم أهميتها، لا تزال تعمل بمعزل عن رؤية وطنية موحدة، ما يقلل أثرها ويحد من قدرتها على خلق اقتصاد رقمي فعّال.والسؤال، لماذا لا تزال الفجوة واسعة رغم كل هذه المبادرات؟ الجواب يكمن في غياب الإطار الوطني المتكامل.

فالعراق يمتلك اليوم عناصر رؤية محتملة لكنه لا يمتلك استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي بالمعنى العالمي.

مثل هذه الاستراتيجية تحتاج إلى تشريعات واضحة لسيادة البيانات، وبنية تحتية للطاقة والاتصال، ونظام تعليم عالٍ قادر على إنتاج الكفاءات، وربط مباشر بين الجامعات والاقتصاد، إلى جانب استقرار سياسي يضمن استمرارية التنفيذ.

استحداث كلية الذكاء الاصطناعي خطوة مهمة، لكنها وحدها غير كافية ما لم تُرفَق بتجهيزات بحثية، شراكات دولية، وتحديث لمهارات التدريس.

ومبادرات التحول الرقمي الحكومية تحتاج إلى قانون ملزم يحكم ملكية البيانات ومكان استضافتها.

فالبلد الذي لا يمتلك بياناته ولا الطاقة اللازمة لحمايتها لن يستطيع تطوير نماذج ذكاء اصطناعي وطنية في التعليم، الصحة، الأمن، أو حتى اللغة العربية واللهجة العراقية.

وجود 38 مليون مستخدم للإنترنت وارتفاع نسبة الشباب يشكلان قاعدة ضخمة يمكن استثمارها في التطبيقات التعليمية والصحية والإدارية والمدن الذكية.

كما أن البنية الأكاديمية الناشئة — من كليات ومراكز بحث — قادرة على تكوين نواة لصناعة رقمية عراقية.

المستقبل الرقمي للعراق لن يُبنى عبر القرارات الوزارية وحدها، بل عبر صياغة رؤية وطنية شاملة تربط بين السيادة الرقمية، الطاقة المستقرة، التعليم المدرسي والجامعي، والاقتصاد الحقيقي. فالمسألة ليست تقنية فقط، بل إعادة تعريف لموقع العراق في خريطة القوة والنفوذ في القرن الحادي والعشرين.

ولكن، هل يمكن للعراق تحويل هذه اللحظة إلى فرصة تاريخية؟ نعم، إذا استطاع أن يجمع عناصر القوة المتوافرة — القاعدة البشرية، البنية الأكاديمية، الإرادة الحكومية — ضمن إطار وطني متماسك. عندها قد يصبح الذكاء الاصطناعي بوابة لعصر تنموي جديد يتجاوز الاقتصاد الريعي ويعيد للعراق دوره في إنتاج المعرفة، لا استهلاكها فقط.

 

زر الذهاب إلى الأعلى