المشهد السياسي العراقي بعد الانتخابات

كتب إبراهيم العبادي.. دخل العراق رسميًا مرحلة إعادة تشكيل السلطات بعد إنجاز انتخابات عام 2025، وهي انتخابات جرت بسلاسة واضحة مقارنة بالاستحقاقات السابقة، لكنها أفرزت تغيّرًا مهمًا في موازين القوى داخل الطيف السياسي.
غير أنّ هذا التغيير لم يحسم مبكرًا عقدة «الكتلة الأكبر» ولا مرشحها لرئاسة الوزراء، كما لم يُنهِ طموحات القوى والشخصيات المتنافسة على المناصب السيادية والمواقع التنفيذية. ففي العراق ما تزال المنافسة تقوم على معادلة معقّدة تتقدم فيها الشخصيات على الأحزاب، والأحزاب على البرامج، والمكوّنات على الرؤى والسياسات العامة.
وبسبب تشتت الأصوات وتوزعها بين عدد كبير من القوائم الصغيرة والكتل الوليدة، لم تستطع الانتخابات – مرّة أخرى – أن تحسم عمليًا شكل الائتلاف الحاكم. ومن ثمّ فإن مرحلة ما بعد الاقتراع تُعاد فيها الدورة التقليدية للمفاوضات والمناورات وإعادة التموضع بين الأقطاب المتنافسة.وفي المشهد الراهن يبرز قطبان رئيسيان للتنافس:محمد شياع السوداني رئيس الوزراء المنتهية ولايته، ونوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق.
الأول يستند إلى دعامتين:
1ـ كتلته التي حصلت على (46) مقعدًا، متصدّرة بقية الكتل بفارق واضح.
2ـ سجّل من الجهود الخدمية والعمرانية التي راكمها خلال ولايته، مانحًة إياه ما يمكن تسميته بـ”شرعية الإنجاز” التي تحوّلت إلى رصيد شعبي وغطاء إقليمي ودولي مقبول.أما المالكي فيرتكز على إرث سياسي طويل لم تنل منه سنوات الخروج من السلطة، ولا هجمات خصومه التقليديين، إذ لا يزال يمتلك قدرة مؤثرة في تجميع رؤوس القوى الفاعلة وتحريك أوراق اللعبة الداخلية في الاتجاهات التي يريدها. لكنني هنا أرى – كما يلمسه المراقبون – أن قيود الدستور والعرف السياسي التوافقي يجعلان الوصول إلى الهدف النهائي (تشكيل الحكومة وتمرير برنامجها) عملية معقدة، تتطلب تنازلات متبادلة وتراجعًا عن السقوف العالية وتبادلًا للمصالح والمواقع.
وعليه؛ فإن العراق أمام سلسلة تفاوضية متعددة المستويات: تفاوض داخل «الإطار التنسيقي» (الشيعي) وتفاوض مع الكتلتين السُنية والكردية وتراكم أوراق ضغط داخلية وخارجية تشتغل كلها في وقت واحد وبمستويات متشابكة إلى أن تتبلور التوافقات ويُتجه إلى قبة البرلمان لشرعنتها.تشير كواليس الدبلوماسيين إلى رسائل خارجية واضحة. فواشنطن التي تُراقب الساحة العراقية في سياق تنافسها مع طهران، تسعى لأن تكون وجهة الحكومة العراقية المقبلة أقرب إلى الغرب، وأن تواصل سياسات الحد من وجود الفصائل المسلحة، التي تجمع بين النشاط السياسي والعمل المسلح وتتبنى مواقف مناوئة للاستراتيجية الأميركية في المنطقة.
وفي المقابل، تبدو طهران أكثر قلقًا من أي وقت مضى. فبعد أن كانت تحتفل – ولو بصمت – بضمان نفوذها مع كل حكومة عراقية منذ عام 2010، فإنها تراقب انتخابات 2025 بقلق ظاهر. وقد عبّرت تصريحاتها الأخيرة حول “التدخلات الخارجية” عن خشية من تغيّر موازين القوة داخل العراق، ما استدعى ردًا غاضبًا من الخارجية العراقية قبل احتواء الموقف. والقلق الإيراني هنا ليس عابرًا؛ إذ إن نفوذها الذي كان غالبًا بدأ يواجه تحديات حقيقية، خاصة مع تكرار الطلبات الأميركية من بغداد بضرورة تحصين القرار العراقي من التأثير الإيراني المباشر.
ومع ذلك، لا يُتوقع – واقعيًا – أن يُحسم الصراع الأميركي–الإيراني بضربة قاضية، فالأميركيون والأوروبيون يفكرون بواقعية شديدة، وهم يدركون أن الضغط الزائد على إيران داخل العراق قد يهدد توازن المعادلة الأمنية والسياسية. ولذلك اعتمد الغرب سياسة «الضغط والاحتواء المتدرج»، التي نجحت في تقليص نفوذ طهران دون القضاء عليه.
الطبقة السياسية العراقية تجد نفسها هذه المرة أمام وقت تفاوضي أقل، فالمهل الدستورية التي شدّد عليها رئيس مجلس القضاء قبيل الانتخابات، والرسائل المتكررة من الأمين العام للأمم المتحدة وأنشطة الدبلوماسية الأوروبية، كلها تشكل ضغطًا دوليًا مباشرًا للإسراع في تشكيل الحكومة، والالتزام بنتائج الانتخابات، وتجنّب العودة إلى سيناريوهات الانسداد السياسي.
هذا الضغط الخارجي يتزامن مع لحظة إقليمية بالغة الحساسية، إذ يشهد الشرق الأوسط تحوّلات جيوسياسية كبرى:
عودة أميركية قوية لإعادة هندسة العلاقات بين دول المنطقة.تراجع واضح لمحور المقاومة بقيادة إيران.
صعود التأثير التركي في ملفات الأمن والطاقة.
انزياح تدريجي لسوريا نحو المحور الغربي.
كل هذه المتغيرات تُضيّق هامش المناورة أمام العراق، وتحوّل التوازنات الإقليمية إلى عامل ضغط ينعكس على الخرائط السياسية الداخلية .
المشهد السياسي العراقي في الأسابيع المقبلة سيكون ميدانًا مزدوجًا للتنافس الخارجي والمناورة الداخلية. فالقوى الدولية تحاول التأثير على اتجاهات تشكيل السلطة، فيما تحاول القوى المحلية تأكيد حضورها واستثمار اللحظة السياسية لضمان بقائها في لعبة السلطة ومغانمها.
وسط ذلك، يبدو أن العراق بأمسّ الحاجة إلى حكومة قادرة على:
إدارة التنوع الداخلي بلا إقصاء.
مسك العصا من منتصفها في العلاقات الإقليمية.
حماية القرار الوطني من محاور الضغط المتعاكسة.
– سد الثغرات التي تتسلل منها القوى الباحثة عن النفوذ في الأرض والسياسة والاقتصاد.
إن ما ستشهده بغداد في المرحلة المقبلة لن يكون مجرد مفاوضات تشكيل حكومة، بل اختبارًا حقيقيًا لقدرة النظام السياسي العراقي على التكيّف مع تحولات الداخل وتوازنات الخارج في آن واحد.



