غزة وعجز الإرادة الدولية

كتب محمد علي الحيدري: في غزة، لا تذبح الأجساد وحدها، تُذبح كذلك مصداقية العالم، وهيبة القانون الدولي، وجدوى ما تبقى من “الإرادة الدولية”، فما جدوى هذا المصطلح إن لم يكن قادراً على وقف المجازر ولا منع المجاعة ولا ردع الجلاد؟.
لقد تحوّل ما يُسمى بـ”المجتمع الدولي”، إلى صوت خفيض لا يسمعه أحد في أوقات الدم، يصدر بيانات الإدانة، ويحثّ على ضبط النفس، ويطالب بممرات آمنة في الوقت الذي تُسحق فيه الطرقات بما فيها ومن فيها، أهو عجز؟ أم لا مبالاة مقنعة بلغة الدبلوماسية؟ أم تواطؤ يُدار عبر الوقت المستقطع، حيث تتسع المجازر بقدر ما يضيق الضمير؟.
إن أكثر ما يوجع في غزة اليوم ليس فقط القصف، ولا الجوع، ولا المذبحة المستمرة منذ شهور، بل هذا الانكشاف الصارخ لفراغ النظام الدولي، من أي قدرة على الفعل حين يكون القاتل محميّاً، والضحية متروكة في العراء.
سُحقت مدن بأكملها، وشُرّد الملايين، وسُجلت أرقام قياسية في عدد القتلى من الأطفال، وكل ذلك تحت سمع وبصر منظمات تُرفع شعاراتها في كل أزمة: مجلس الأمن، الأمم المتحدة، المحكمة الجنائية الدولية، الصليب الأحمر… وكلها حضرت ولم تفعل شيئاً، أو فعلت ما هو أقل من الشفقة وأبعد ما يكون عن العدل.
إن القانون الذي لا يحمي أطفال غزة، هو قانون فاقد للشرعية الأخلاقية، والمجلس الذي لا يقدر على وقف المذبحة، هو مجلس يسقط في وظيفته الرمزية قبل السياسية، والمجتمع الذي لا يستطيع فرض إرادته حين يُنتهك كل ما ادّعاه من قيم، هو مجتمع يُفترض أن يُحاسب، لا أن يُحتفى به كمرجعية.
والمأساة أن العالم لا يفتقر إلى المعلومات، بل إلى الشجاعة، كل شيء معروف: من يقصف، من يجوّع، من يمنع الإغاثة، من يدير الحرب ويبررها، ومع ذلك تُترك غزة وحيدة، كأننا في عصر ما قبل القانون، وكأن الضمير العالمي تحوّل إلى آلة تسجيل تحفظ الأرقام ولا تسأل عن المعنى.
هذا السقوط الأخلاقي الكارثي لن يتوقف أثره عند حدود غزة، فحين يُفقد الإيمان بأن العالم قادر على وقف المجازر، تُفتح الأبواب أمام العنف واليأس والتوحّش، ومن يعجز عن وقف المذبحة في غزة، سيفشل غداً في وقفها في أماكن أخرى.
في النهاية، لن يُسأل التاريخ عن عدد البيانات، بل عن عدد القبور، ولن يُذكر من صمت، بل من منع، ولن يُخلّد من “تابع بقلق”، بل من انتصر للعدل قبل فوات الأوان.