معرفة الأكاديمي ومسؤوليَّته

كتب العلاء صلاح عادل: في زمن تتسارع فيه المتغيرات، وتشتد فيه التحديات الفكرية والاجتماعية والسياسية، لم يعد الأكاديمي مجرّد باحث يجلس خلف مكتبه، ولا موظفاً يحمل لقباً علمياً يتنقّل بين قاعات المحاضرات.
لقد تغيّر دور الأكاديمي اليوم، وتحوّل من كونه ناقلاً للمعرفة إلى أن يكون فاعلاً مؤثراً في صناعة الوعي، وصياغة الرأي العام، وتوجيه بوصلة المجتمعات نحو العدالة، والحرية، والنهضة.
أن تكون أكاديمياً في هذا العصر لا يعني مجرد الحصول على شهادة الدكتوراه، أو حيازة عدد من البحوث المنشورة، أو نيل عضوية هيئة تدريسية في جامعة مرموقة.
أن تكون أكاديمياً هو أن تنذر نفسك للسؤال، وللبحث عن الحقيقة، وللتفاعل مع نبض المجتمع، أن تكون الأكاديمية بالنسبة لك مشروعاً حياتياً، لا وظيفةً مؤقتة، أن تعيش قلق المعرفة، وهمّ الفهم، وأن تدرك أن العلم ليس فقط أداة تفسير، بل وسيلة تغيير.
فالأكاديمي الحقيقي لا يُقاس بعدد ما كتب، بل بمدى ما غيّر، هو ليس مجرّد مُنظّر يتفنّن في بناء النماذج والمفاهيم، بل فاعل اجتماعيّ يحمل قضاياه إلى المنابر، ويحوّل أفكاره إلى مشاريع، ويجعل المعرفة جسراً بين الجامعة والناس، في عالم تعاني فيه المجتمعات من أزمات تطرف، وتضليل، وتفكك، فإن الأكاديمي مطالب بأن يتقدّم الصفوف، لا أن يقف على الهامش، فهل من المعقول أن تشتعل أوطان بالأسئلة المصيرية، بينما يظل الأكاديمي مشغولاً فقط بتحقيق شروط الترقية؟.
إن مسؤولية الكلمة التي تُقال في محاضرة أو تكتب في ورقة علمية هي مسؤولية أخلاقية وفكرية، الكلمة قد تغيّر قناعات، وتبني أجيالاً، وتُحدث تحولات، كما أن الصمت في المواقف الحرجة لا يعد حياداً بريئاً، بل قد يكون تواطؤاً صامتاً ضد الحقيقة، حين تسكت النخب العلمية عن قول ما يجب أن يُقال، فإنها تترك المجال فارغاً للخطابات الشعبوية والمضللة.
الأكاديمي اليوم مطالب بأن يكون “مؤثراً”، لا فقط “محترفاً”، مؤثر في وعي طلابه لا في درجاتهم فقط، مشارك في تطوير مؤسسته لا متفرجاً على تراجعها، منحاز للعدالة والمعرفة في كل سياق، لا مجرد موظف ينتظر نشرة الترقية أو مكافأة النشر، والمجتمع بدوره ينتظر من الأكاديمي أن يكون مرجعاً لا تابعاً، صوتاً للحقيقة لا صدى لسلطة، وشاهداً على المرحلة لا عابراً فيها.
وهذا لا يتحقق إلا إذا بنى الأكاديمي لنفسه هوية فكرية وشخصية واضحة، لا تقوم على الشهرة، بل على القيمة، لا تعتمد على العلاقات، بل على المواقف، لا تسعى للضوء الإعلامي، بل تصنع النور المعرفي، هوية تبدأ من طريقة تدريسه، وأسلوب كتابته، ونزاهة مواقفه، وجرأته في قول ما لا يُقال، هوية لا تحتاج بطاقة تعريف، بل يشهد لها الأثر.
في هذا السياق، لا بد أن ندرك أن المستقبل لن يكون حليف الأكاديميين الغائبين عن نبض الواقع، ولا لأولئك الذين يحتمون بمكاتبهم ومصطلحاتهم المعقّدة، المستقبل لمن يحوّل المعرفة إلى طاقة تغيير، ولمن يكون صوته امتداداً لمعاناة الناس وآمالهم، لا امتداداً لنص جامد أو مرجع محفوظ.
الأكاديمي الذي نحتاجه ليس من يعيش في برج عاجيّ، بل من ينزل إلى الشارع، ويُصغي، ويحلّل، ويشرح، ويُضيء الطريق، ليس من يُكثر من الاقتباسات، بل من يُنتج فكراً يُقتبس، ليس من ينشر لأجل الترقية، بل لأجل التأثير.
ولذلك، فإن الأكاديمي الحقيقي هو ذاك الذي يُرى أثره قبل أن يُقال اسمه، هو ضوء لا يصدر ضجيجاً، لكنه يُهتدى به في العتمة، هو الفكرة الحيّة التي تمشي بين الناس، تلهم، وتفسر، وتنتقد، وتقترح، هو ذاكرة المجتمع النقدية، وضميره الفكري، وجسره نحو مستقبل أفضل.
فلا تكن مجرد منظّر يملأ الصفحات، كن ضوءاً يملأ الحياة، لأن الأكاديمي، في جوهره، ليس صانع معرفة فقط… بل صانع وعي، ومهندس أمل.