فهمُ الذَّاتِ المجتمعيَّة والوعي بالتعدُّديَّة

كتب محمد حسين الرفاعي .. يُفترض أن نفهم السابق إلى التَّساؤل عن المواطنية، أي القَبْليِّ Priori الذي يسبق إدراكنا وفهمنا ووعينا لمفهوم المواطنية، بوصفها الشكل الأبرز الذي وصلت إليه صيرورة الحداثة والتحديث، بالاِنطلاق من تفكيك الأيديولوجيا المجتمعيَّة، من جهة، والوعي بالذات المجتمعيَّة.
من جهةٍ أخرى. لا بُدَّ من أنْ يقوم التَّساؤل عن المواطنية، مفهومًا وممارسةً، على أرضيَّة واقعيَّة مجتمعيَّة كي يُصبح التَّساؤل عنها مشروعًا؛ أو يتوفَّر على شرعيَّة النهوض. ويجب، من جهةٍ أخرى، أن نكون قادرين على بناء التَّساؤل، على نحو الحُرِّيَّة الحديثة، كل نفكِّر، فيما بعد، حول إمكانات مجتمعيَّة ومعرفية لتقويم مفهوم المواطنية. وينبغي، بعد ذلك، من جهة ثالثة، أن يكون المجتمع قد بلغ مستوى من مستويات دَمَقْرَطَةِ المجتمع، كي يكون في مستطاع كينونته أن يدفع نحو التفكير بالمواطنية. إنَّنا في هذا السياق علينا أن نبني [السابق- إلى- المواطنية]، في المجتمعات العربيَّة بعامَّةٍ، وفي بلدان المنطقة والإقليم، بخاصَّةٍ.
وعلينا في هذا المضمار، أي ضمن تساؤلاتنا عن نمط وجودنا في العالَم، ورؤيتنا الشاملة الكُلِّيَّة عن الوجود، والمجتمع، والإنسان، والإنوجاد Existing اِنطلاقاً منها، أن نتوقف عند تساؤلات واقعيَّة في جذرها العميق- والمؤلم. عميق لأنَّ الواقع، أي [واقعـَ-ـنا] يتوفَّر على إمكان أن [يقع- علينا- في-…]: الهُويَّة، أو الحُرِّيَّة، أو الديموقراطية أي أي موضوع حيوي من موضوعات المجتمع والإنسان، وهو بإمكانه أن يختفي بوقوعه علينا. كما هو، من جهةٍ أخرى، قادرٌ ضمن شروط إمكان توفرها آيديولوجيَّات اِحتكار فهم النص بعامَّةٍ، والمقدس بعامَّةٍ، أن يختفي في وقوعه، أو يقع في ضرب من ضروب تزييف الواقع، أو فبركته، أو اِصطناع واقع مُضاف إليه؛ واِختزال الواقع الأصليّ بذلك. ومؤلم، لأننا نعاني من إصابة تتمثَّل في يوتوبيا فكرية، تريد منا، دائماً قَبْلِيَّاً، حالمين بمستقبل أفضل؛ وتجعل كينونتنا مُصابة بهذه الصورة. قالَ أحدهم ذات مرة: “لدي حلم”، وكان يقصد لدي حلم الأمة- الملة، في معنى قومي قد صار، بوصفه شكلاً من أشكال الاِنتماء إلى العالَم، الشكل الأكثر تناسباً مع عالَم اليوم، ووقعت الكارثة.
في هذا المعنى، ما يمكن فعله إنَّما هو يتمثَّل بتحديد [النموذج- المثال Ideal-Type] لبناء التَّساؤل عن المواطنية اليوم في أفق الإنسانيَّة اِنطلاقاً من المشترك العالَمي. ويتضمن ذلك معنى الذِّهاب إلى الإمكانات الموضوعيَّة Objective Possibilities التي من شأن بِنيَة مفهوم المواطنية، وما يمكن أن يشتمل عليه. وبناءً عليه، أتوقف هنا عند ثلاثة أصعدة: الصعيد الإبستيمولوجي. والصعيد السُّوسيولوجيّ. والصعيد السوسيو- سياسي؛ كي نتفحَّص فيها معنى وممارسة ومفهوم المواطنية، في تخصيص بنيوي للمفهوم اِنطلاقًا من ممارسة المفهوم. وهكذا، تظهر ثُنائيَّات إبستيمولوجيَّة في التعرف إلى المواطنية والتفكير بها، هي على النحو الآتي:
إبستيمولوجيَّاً علينا أن نحدِّدَ المواطنية اِنطلاقاً من ثُنائيَّات أساسيَّة تتطلَّب التعرف عليها في أفق الوجود في العالَم الذي يمكن الظفر بفهمه، ضمن منظور باراديغم المواطنية، بوصفه المواطنية العالَمية. تتمثَّل الثُنائِيَّة الأولى التي تتعلَّق بمفهوم الآيديولوجيا، أي [الآيديولوجيا بوصفها قلباً (أو تزييفاً) للواقع- والآيديولوجيا بوصفها عِلمَ الأفكار أي الرؤية الكُلِّيَّة للعالَم، والوجود، والمجتمع، والإنسان]. في هذا المعنى، إذا توقفنا عند مستوى الفهم الآيديولوجي لمفهوم الآيديولوجيا، أي الفهم الماركسي، نسقط في أنانية فلسفية فظيعة؛ هي الآخر بوصفه موضعَ اِتهام دائماً. فيصبح شكل من أشكال المعرفة، أي شكل من أشكال ممارسة أفكار بعينها في بناء المعرفة، الشكلَ الأساسيَّ، الوحيدَ، الذي يختفي برداء العلم الحديث، والفلسفة الحديثة، ويخبرنا أنَّه قد صار العلمَ، وقد صار الفلسفة.
وإذا اِنطلقنا من الفهم الكُلِّيّ لمفهوم الآيديولوجيا بوصفها الإجابة الصريحة، الأوَّلِيَّة التي ينطلق منها الفكر، في فهم ذاته، والآخر، والعالَم الذي تتشاركه مع الآخر، تُصبِح الآيديولوجيا تلك الأصولَ المجتمعيَّة التي يستحيل أن تغيبَ عن أي ضرب من ضروب المعرفة، وعن أي شكل من أشكال ممارستها. إنَّ الآيديولوجيا والحال هذي، إنَّما هي، كما يذكرنا أنطوان “دوستات دِي تْرَيْسي”، تتوفَّر على مكوِّنات نظرية يمكن بسهولة أن تُوظَّف في مشاريع- شُعارات سلطوية بائسة تجعل النحن، وقد صارت مكوِّناً هوويَّاً، معياراً أساسيَّاً للوجود، في المجتمع، واِنطلاقاً منه، لا بواسطة الإنسان، ووضعه مركزًا في صيرورة الفهم والتفهيم: الأنسنة.
وبالتالي تظهر الثُنائِيَّة الثَّانية التي تتمثَّل في [الهَويَّة- والذَّات]: الهَويَّة بوصفها ما به أكون على ما أكون: أكون أنا. إنَّ الهَويَّة، في هذا المعنى، تقوم على الوحدة، فيما تنهض الذَّاتُ على التعدُّد والاختلاف والتنوع. إنني بواسطة الذَّات التي ليَّ أنا، وفيَّ أنا، ومني أنا، وبيَّ أنا، أكون بواسطة جملة الإمكانات المتعدِّدَة، والمتنوِّعةِ، والمختلفة التي تجعل، في كلِّ مرَّةٍ، منِّي، كائناً في وضعيات مختلفة، وشروط إمكان متباينة. وإنني بواسطة الهَويَّة التي لنا نحن، وبنا نحن، وفينا نحن، ومنا نحن، ومهما زُيِّفت هذه النحن، وتمت فبركتُها، أوجد بوصفي بالاِنطلاق من اِنتماء بعينه إلى مجتمع، أو جماعة، أو فئة، أو طبقة، أو مجموعة، أو طائفة، أوجد بوصفي لا أتوفر على معنىً ذاتيٍّ، ودلالةٍ ذاتيةٍ، وهدفٍ، ضمن الفعل المجتمعيّ الذي أقوم به؛ بل أوجد بوصفه ماشيناً Machine- آلة ردة فعل.
إنَّ الذَّات إنَّما هي ما به أتوفَّرُ على إمكانات موضوعيَّة في أن أصير أو أصبح أنا ضمن أنوات أخرى، ذوات فاعلة أخرى. الذَّات فعلٌ، ولا توجد إلاَّ بوصفها فعلاً مجتمعيَّاً، على هذا النحو أو ذاك؛ فيما الهَويَّة، ولأنَّ الذَّات مجتمعيَّة، أولاً وفوقَ كُلِّ شيءٍ، لأنَّها فعلٌ، أو لا تكون، فإنَّ الهُويَّة تُصبِح ذاك الماضي الذي يريد أن يسحبَ ذاتي لكي تكونَه في كُليَّتِهِ بكُلِّيَّتِها؛ تكون كما يريد هو لها أن تكون. بهذا المعنى ينحصر مفهوم الهَويَّة ضمن المُنطلق منه الذي بواسطتِهِ أصير كائناً مجتمعيَّاً. بَيْدَ أنَّهُ لا يمكنني إلاَّ أن أكون كائناً مجتمعيَّاً ضمن المجتمع العالَمي. وعلى هذا النحو تظهر على السطح الثُنائِيَّة الثَّالثة التي تشتمل على معاني [الوحدة- والاِختلاف الهووي، من جهة، والتعدُّد الآيديولوجي، والتنوع المجتمعيّ، من جهة أخرى]. ليست الوحدة اليوم ضمن براديغم المواطنية غير الوطن- الدولة؛ بعد أن صارت هذه الأخيرة قائمةً على أنماط فعل بنَّاءٍ في المدرسة والجامعة (الآكاديميا)، أي في التربية والتعليم، وفي المصنع، أي بناء الدورة الإنتاجية الكُلِّيَّة، ضمن محطاتها الثُلاثيَّة العالَميَّة أي ثُلاثيَّة [والإنتاج- والتبادل- والتوزيع]، وفي اِستقلالية القوة الدفاعية، أي العسكر ضمن الولاء المطلق للاِستقلالية والسيادة في القرار ووضع مصلحة الوطن فوق جميع المصالح الأخرى. وهكذا يُصبح الاِختلاف الهووي، والتعدُّد الآيديولوجي، والتنوع المجتمعيّ، وممارسة هذه الضروب من الإمكانات المجتمعيَّة، ضرباً من ضروب الاِنتماء إلى العالَم بالإمكانات الموضوعيَّة التي يوفرها لنا من أجل أن نعيد بناء الذَّات على ذاتِ أنفسنا العميقة وقد صارت في المستقبل؛ أمامنا. أي بوصفها إمكانَ بناءٍ مستقبلي لذواتنا التي تريد أن تفعل وبالتالي هي تريد [أن- تكون]، على نحو الحُرِّيَّة والمساواة والعدالة.



