داء التعميم وآفة التهديم

كتب علي لفتة سعيد: كثيراً ما يكون النقد فاعلاً ومهمّاً حين يُحصر في اتجاهه الصحيح، بوصفه فعل تقويمٍ لا مساس فيه بذات المُنتقَد أو وجوده، إذ سرعان ما يتحوّل، خارج هذا الإطار، إلى عملية انتقاصٍ مقصودة، وهذا الأمر يُعدّ خطيراً في سياق الوعي المجتمعي، لأنّ المجتمع الواعي والمثقّف هو ذاك الذي يدرك معنى النقد، ويُحسن توظيفه في تصحيح الأخطاء أو كشف الممارسات السلبية التي قد تشوب السلطة أو المجتمع أو حتى بعض الفئات المكوِّنة له.
غير أنّ المشكلة الكبرى التي يقع فيها كثير من المُنتقِدين، تتمثّل في تعميم النقد ليشمل الوسط المُنتقَد بأكمله، سواء كان فئةً كاملةً أو مجتمعاً لدولةٍ ما، وهو تعميمٌ يفتقر إلى الدقّة، لأنّه لا يمكن نعت مجتمعٍ كاملٍ بأنّه مجتمعٌ كسول، أو عديم الوعي، أو فاقد للثقافة والأخلاق، أو غير فاعلٍ أو غير منتج، بل يصل الأمر أحياناً إلى وصم مجتمعاتٍ بأكملها بصفاتٍ خطيرة، كأن تُنعت بالإرهاب أو التعصّب، وهو توصيف جائرٌ لا يستند إلى منطقٍ أو معرفة.
إنّ لغة التعميم لا تختلف في جوهرها عن لغة التعصّب، فكلاهما ينطلق من وهم امتلاك الحقيقة المطلقة، وينتهي إلى إقصاء الآخر، فالتعصّب يعني تغييب المختلف، والتعميم يعني نعت جماعةٍ كاملة بأوصافٍ قد لا تنطبق إلّا على أفرادٍ أو حالاتٍ محدودة، وفي الحالتين، يتم اختزال الواقع المركّب في صورةٍ واحدةٍ جامدة.
ويعود هذا التعميم، في كثير من الأحيان، إلى غياب فكرةٍ واضحة لدى من يُعمِّم، أو إلى عجزٍ عن فهم التوصيف بوصفه فعلاً نقديّاً واعياً، فهو لا يندرج ضمن النقد، بل يقع في خانة سوء التقدير أو الفعل المقصود لتقليل الاحترام، أو تشويه السمعة، أو تكذيب الجماعة البشرية التي تُشكّل المجتمع أو الدولة، فحين تغيب الحجّة، تغيب القدرة على النقد الحقيقي أو مواجهة أفكار الآخر بالحجج المقابلة، فيلجأ المُعمِّم إلى تشويه الفكرة بدل مناقشتها، ثم تعميم هذا التشويه على الجميع.
إنّ التعميم يشبه آفةً قاتلة تهدّد النسيج الاجتماعي، خاصّةً حين يتحوّل إلى ظاهرةٍ متنقّلة، أو مقولةٍ ثابتة، أو ما يشبه الحكمة المتداولة، فتُبثّ على نحوٍ مريض، وتُتلقّى وكأنّها حقيقةٌ راسخة أو بصمة نهائية لمجتمعٍ أو مدينةٍ أو فئةٍ بعينها، وقد بلغ الأمر حدّ نعت مدنٍ كاملة بأوصافٍ ذميمة عُمِّمت على سكّانها جميعاً، ممّا يُنتج آراءً مشوَّهة تسهم في تعميق الشروخ داخل المجتمع، وتتحوّل مع مرور الزمن إلى ممارسةٍ من ممارسات النعت أو التنمّر.
ولا يقتصر أثر التعميم على النعت السلبي فحسب، بل يمتدّ كذلك إلى ما يُسمّى بالتعميم الإيجابي، حين يُرفع مجتمعٌ كاملٌ إلى مرتبةٍ المثالية، ويُوصَف بأنّه واعٍ ومثقّف ويفهم في كلّ شيء، فهذا النوع من التعميم لا يقلّ خطورة، لأنّه يُنتج مقارناتٍ غير عادلةٍ بين المجتمعات، سواء كانت دولاً أو مدناً أو حتى جماعاتٍ صغيرةٍ داخل المدينة الواحدة.
إنّ الإطلاق والتعميم لا يُعدّان ظاهرةً إيجابية، بل يسهمان في تقليل الاحترام، وفي إنتاج توصيفاتٍ غير دقيقة يُستغلّها من لا يريد الاستقرار، فتُردَّد بلا وعي أو أساسٍ علمي أو أخلاقي، وتكاد هذه الثقافة أن تكون واحدةً من آفات المجتمع، لأنّها تُشوّه الوعي العام، وتُربك البوصلة القيمية، وتشمل في تأثيرها حتى طبقة المثقّفين، ومن بينهم الصحفيّون، الذين يتعرّضون بدورهم لعمليات انتقاصٍ وتعميمٍ سلبي.
ولا يخفى أنّ دولاً بأكملها وُسِمت بصفاتٍ نمطية أُلصقت بها من جهاتٍ لا تريد للعلاقات بين المجتمعات أن تكون مستقرة، وتطفو هذه الصفات على السطح مع أيّ احتكاكٍ أو نشاطٍ بين الأطراف، فتتحوّل إلى أدوات مواجهة، ويغدو الانتقاص والتنمر علامةً على فعلٍ وردّة فعل، تُغذّيهما الذاكرة المشوَّهة للتعميم.




