ما بعد الانتخابات.. الجلوس إلى طاولة الوطن

كتب جاسم حسين الخالدي.. بعد أن توقفت ماكنة الانتخابات، وهدأت ضوضاء الحملات الانتخابية، وعرفت الكيانات السياسية أحجامها الحقيقية في الشارع، بات من المفيد – بل من الضروري – أن تجلس القوى السياسية إلى طاولة واحدة لتتفق على شكل الحكومة المقبلة بأسرع وقت ممكن.
فليس من مصلحة أحد، لا من القوى الفائزة ولا من تلك التي تراجعت نتائجها، أن يطول عمر مرحلة تشكيل الحكومة كما حدث في الدورات السابقة، حين تحوّلت المشاورات إلى لعبة شدٍّ وجذب استنزفت الوقت والجهد، وأدخلت البلاد في حالة من الجمود السياسي والاقتصادي
لقد أثبتت التجارب الماضية أن إطالة أمد التفاوض لا تنتج حكومات قوية، بل تولّد تسويات هشة تقوم على تقاسم السلطة لا على مبدأ الكفاءة والمسؤولية.
وغالباً ما كانت تلك التسويات تفتح الباب أمام أزمة جديدة كل عام، وتخلق فجوة متزايدة بين الشارع والقوى الحاكمة، بحيث فقد المواطن ثقته بجدوى الانتخابات نفسها.
اليوم، يحتاج العراق إلى مقاربة مختلفة، وإلى وعي سياسي يتجاوز الحسابات الحزبية الضيقة.
فالبلاد تواجه ملفات متشابكة لا تحتمل التراخي منها:-أزمة الخدمات الأساسية التي باتت تمسّ حياة المواطن اليومية.
-تحديات البطالة وغياب فرص العمل للشباب.-الضغوط الاقتصادية نتيجة تقلّبات أسعار النفط.
-والملف الأمني الذي لا يزال يحتاج إلى إدارة متوازنة تحفظ هيبة الدولة وتمنع عودة الفوضى.
كل هذه القضايا تتطلّب حكومة منسجمة تمتلك برنامجاً واقعياً، وتستند إلى اتفاق سياسي واضح لا إلى توزيع مناصب.
إن تشكيل الحكومة يجب أن يكون عملية بناء ثقة وطنية، لا صفقة مرحلية سرعان ما تنهار أمام أول اختبار.
إن العراق لا يعيش في عزلة عن محيطه، بل يقف في قلب منطقة تتقاطع فيها المصالح والنزاعات.
فالتطورات الإقليمية الأخيرة – من الحرب في غزة، والتوترات بين إيران وإسرائيل، إلى اضطراب المشهد في سوريا واليمن، واحتدام المنافسة في الخليج – كلها تلقي بظلالها على الداخل العراقي.
في مثل هذا السياق، يصبح تأخر تشكيل الحكومة أو ضعفها السياسي مدخلاً لتأثر القرار الوطني بالعوامل الخارجية، سواء عبر الضغوط السياسية أو الاقتصادية أو حتى الإعلامية.
إن استمرار غياب التوافق الداخلي يمنح القوى الإقليمية مساحة أوسع للتأثير في المشهد العراقي، ويُضعف قدرة البلاد على اتخاذ مواقف متوازنة تحفظ استقلالها السياسي ومصالحها الوطنية.
لذلك فإن تسريع تشكيل حكومة قوية ومنسجمة ليس مطلباً داخلياً فقط، بل هو أيضاً ضرورة إقليمية لحماية القرار العراقي من التجاذبات الخارجية.
إن المخاطر المحتملة لتأخر تشكيل الحكومة كثيرة، فكل يوم يمرّ بلا اتفاق يعني تعطيل مشاريع الدولة وخطط الموازنة، وتجميد قرارات الاستثمار والتنمية، وزيادة حالة الترقب والقلق لدى المواطنين والأسواق.
كما أن استمرار الغموض السياسي يضعف صورة العراق أمام شركائه الدوليين ويؤثر في مكانته الإقليمية.
من هنا، تبرز مسؤولية النخب السياسية في أن تدرك أن الديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل التزام بعد الصندوق.
فالفوز الانتخابي لا يمنح تفويضاً مفتوحاً، بقدر ما يفرض التزامات تجاه الشعب الذي صوّت أملاً في التغيير والإصلاح.
إن الطريق إلى حكومة فاعلة يبدأ من الحوار الوطني الصريح الذي يُغلّب فيه منطق الدولة على منطق الكتلة، والمواطنة على الطائفة، والمصلحة العامة على المكسب الفئوي.
فالبلاد بحاجة إلى مرحلة جديدة تُبنى على الثقة والتفاهم لا على الانقسام والتناحر.
لقد آن الأوان لأن تُثبت القوى السياسية أنها تعلمت من تجاربها السابقة، وأنها قادرة على تحويل التنافس الانتخابي إلى تعاون وطني منتج.
فالمواطن الذي انتظر طويلاً لا يطلب المعجزات، بل يريد حكومة تُنهي الجدل وتبدأ العمل، حكومة تُعيد الاعتبار إلى الدولة وتضع مصلحة العراق أولاً وأخيراً.
البلاد اليوم أمام لحظة اختبار حقيقية، فإما أن تنتصر الإرادة الوطنية ويتقدّم مشروع الدولة، أو يعود الدوران في حلقة الانتظار التي أرهقت الجميع. وفي الحالتين، سيكتب التاريخ من كان في صفّ الوطن، ومن اختار البقاء في صفّ المكاسب.




