التنمية الاقتصاديَّة.. والقطاعات الأربعة

كتب د. حامد رحيم: مهما تعالى البنيان وزخرفت واجهته وتفنن المعماري في ديكورات الغرف وطعم البناء بالمرمر والحجر الملون، يبقى الجزء المخفي منه والحامل لكل تلك الأطنان من الحجارة، هو عنصر النجاح الفعلي للبناء، أي أن الأساس الذي يقوم عليه البناء إن لم يكن صحيحاً وفق المعايير الهندسية، فعندها سيكون البناء مهدداً بالانهيار في أي لحظة، وبالخصوص عن حدوث العوارض التي تجعل المشروع أمام الاختبار الحقيقي.

 

التنمية الاقتصاديَّة هي عملية تغيير جوهرية تحدث في البناء الاقتصادي لتحول البناء المتهالك القائم إلى شكل جديد يزدان بالنشاطات المنتجة بمختلف الأشكال، فنجد القيمة المضافة للنشاط في تعاظم مستمر بعد الركود والفشل، سوق العمل تتحول إلى كتلة ملتهبة من الطلب المستمر، لتعوض سنوات البطالة المزمنة، الفقر يتقلص بعد أن كان هوية ذلك النشاط، نظم التعليم تتحول إلى ميدان معرفي مزدهر، بعد الهيكل المتخلف المنتج للأمية.

الناس تأكل مما تنتج بدل سنوات القحط والعوز، الصناعة وما تنتجه من سلع تجدها عابرة للحدود في الأسواق العالمية، لتجول بلدان العالم وعليها عبارة الرفعة والشرف والهوية المميزة (صنع في…) الناس تلمس بوضوح عوائد النشاط الاقتصادي كالمطر الذي لا يميز بين أرض وأرض أخرى عند نزوله، بعد أن كانت تلك العوائد حكراً على فئات متنفذة تحت يافطات اجتماعية طبقية من أحزاب متنفذة، ولصوص تنشط في الأسواق الموازية، الخدمات السياحية والمصرفية ودعم الفئات الضعيفة وغيرها لها سياسات نافذة ومؤثرة، بدلاً من أن تكون قوانين عاطلة لا تقوى على تحريك جناح بعوضة، هذه وغيرها تميز البناء المتخلف عن البناء التنموي.

فإذا كانت التنمية بناءً، فما هو أساسها؟ متى نقول إن الأساس الذي قام عليه البناء التنموي صحيحٌ وفقاً للمعيار الاقتصادي؟ ومتى نقول إنه أساس رملي سينهار عند الهزات والأزمات، التي تعد سمة غالبة للنشاط الاقتصادي في الدول الكبرى اقتصادياً، فضلاً عمن هم أدنى منهم؟.

هناك مقولة شهيرة في الوسط الاقتصادي مفادها، إذا اجتمع ثلاثة اقتصاديين خرجوا بأربعة آراء، والأمر غير مستغرب بحكم طبيعة علم الاقتصاد المعقدة، والتي تتعامل مع السلوك البشري المتغير دائماً، إضافة للتداخل الكبير مع المتغيرات السياسية بمعنى أن توصيف المنطلقات التنموية خاضعة لفلسفات مختلفة تتجاذبها المسارات الأيديولوجية للمدارس الاقتصاديَّة، وما علاقة ذلك بموضوعنا؟. بطبيعة الحال أن للنشاط الاقتصادي خارطة إطارها العام يسمى الناتج المحلي الإجمالي وتفاصيلها، هي المساهمة القطاعية للنشاطات الاقتصاديَّة المختلفة في الناتج المحلي، وهذا الكلام له هيكل عام نصّت عليه النظرية الاقتصاديَّة، وفقاً للتطور الحاصل في الاقتصاد العالمي.

فبعد أن كانت التفاصيل تصنّف النشاطات إلى ثلاثة قطاعات رئيسة، أصبح هناك قطاع رابع، فالأول هو (القطاع الاولي الاستخراجي والزراعي)، والثاني هو (قطاع الصاعة التحويلية)، اما الثالث فهو (القطاع الخدمي) والأخير هو الأحدث (القطاع المعرفي).

والسؤال الجدلي هنا، ماذا لو انتقل اقتصاداً ما من القطاع الأولي إلى القطاع الثالث والرابع؟ عبر عملية حرق المراحل، أليس ذلك عملاً دافعاً نحو تنويع مصادر الدخل والخروج من عنق زجاجة الأحادية عبر الاعتماد على الصناعة الاستخراجية أو الزراعة البدائية الممتدة؟ وبالمناسبة لهذه التحولات مصاديق منها دول الخليج كقطر، التي أصبحت ذات نشاط خدمي مميز جداً، خصوصاً في قطاع النقل، والإمارات التي انتقلت نحو القطاع المعرفي، فضلاً عن خدمات السياحة المميزة جداً أيضاً.

القول هنا خلاف لهذا الافتراض، فالأساس المتين الذي يرتكز عليه النشاط الاقتصادي في بنائه التنموي، ينبغي أن يكون قوياً قابل لمواجهة الأزمات على عكس ما حصل في قطر أبان توتر العلاقة مع السعودية، ولاحظنا خلال أيام عانت من أزمة غذاء حادة أنقذتها الجسور الجوية من تركيا وإيران لعوامل وتوازنات سياسية!

بمعنى أن القطاع الخدمي لم يشفع لها في إدارة صراعها مع الأطراف الخارجية، أين الأساس المتين في ذلك؟ لا بد من التركيز على رفع مساهمة القطاع الثاني، متمثلاً بالصناعة التحويلية، الصناعة التي تعد قطاعاً رافداً لكل القطاعات الأخرى بمستلزمات الإنتاج، ناهيك عن خصائصه الذاتية، التي تمنحه ميزات ينفرد بها عن غيره، فهو قليل الحساسية نسبياً للاضطرابات السياسية، وقليل التأثر نسبياً بالأحداث العامة، كالجوائح الصحية وغيرها، نعم لولا الصناعة التكنولوجيَّة، لما تفوقت أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، فضلاً عن صقور آسيا الصين واليابان، ولم تنجح ماليزيا وسنغافورة في تجاربهما التنموية.

الخلاصة: البناء التنموي لا بدَّ من له أساس متين، يتفرع منه باقي النشاطات الاقتصاديَّة، ألا وهو قطاع الصناعة التحويليَّة، أما تجاهله في التحولات التنموية، يفقد التجربة التنموية قدرتها على مواجهة الأزمات.

 

زر الذهاب إلى الأعلى